د. جابر قميحة |
31-10-2010 00:16 فيالسطور الآتية نقف وقفة قد تبدو طويلة أمام الأمثال وما تعكسه من معطياتسياسية ، واجتماعية ، ونفسية ، وتربوية . واستخلاص هذه القيم من الأمثالنهج قرآنيا ونبوي .
ففي القرآن الكريم " مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِياسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُبِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّبُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَالسَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْفِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌبِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَاأَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْشَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىكُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) البقرة من 17 الى 20
وقوله تعالى " أَلَمْتَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍطَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِيأُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَلِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍكَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْقَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِالثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّاللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) " إبراهيم 24ـ 27 .
**********
ومن الأمثال النبوية "عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثلالقائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهمأعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا علىمن فوقهم ، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإنتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا "رواه البخاري .
**********
وهناك فروق معروفة بين المثل والحكمة تتلخص فيما يأتي :
يجتمع في المثل أربعةُ لا تجتمع في غيره من الكلام : إيجاز اللفظ، وإصابةالمعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة .
ويقول ابن المقفع : إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق ، وآفق للسمع ، وأوسع لشعب الحديث .
فالمثل قولٌ موجز حكيم ، يرد في حادثة ما،ويذيع على الألسنة ، فيضرب به في حالةٍ تشبه الحالة الأولى التي ورد فيها .
ومن ثم يرتبط المثل- باعتبار استعماله- بحادثتين :
الأولى:ذكر فيها المثل لأول مرة وتسمى ( مورد المثل( ، والثانية: التي يستشهدفيها بالمثل وتُسمَّى (مضرب المثل) ، ومن ذلك نستطيع أن ندرك ما يلتقي فيهالمثل والحكمة ، وما فيه يختلفان : فالمثل يشبه الحكمة في الإيجاز، وإصابةالفكرة .
ولكنهما يختلفان من وجوه تتلخص فيما يأتي :
1- انفراد المثل بالارتباط بمورد ومضرب.
2-الحكمة ذات مضمون فكري وإنساني وأخلاقي، وذات طبيعة توجهية سلوكية ، فهيلا تصدر إلا عن طائفة من ذوي الثقافة العالية ، والتجارب الطويلة : فشخصيةقائلها لها اعتبار .
أما المثل فالاعتبار الأول ( للحادثة ) ، لا لشخصية قائله ومركزه الاجتماعي ، وحظه من الثقافة والتجربة .
مختارات من الأمثلة ...
- إن من البيان لسحرًا.
جزاء سنمار.
كيف أعاودك وهذا أثر فأسك ؟
إن البلاء موكل بالمنطق .
الصيف ضيعت اللبن .
*********
وإذا كان للأمثال قيمتها الفنية كأقوالٍ موجزةٍ مركزةٍ قويةِ البيان آسرة التصوير، فإن لها أهميتها الكبرى من جوانب أخرى:
1- فهي تنم على ذكاء قائلها ونفاذ بصيرته ، ودقة ملاحظته وبراعته في التصوير والتركيز .
2-وهي وعاء حفظ على مدار التاريخ ، أسماء مشاهير العرب ، وسماتهم النفسية ،والعقلية ، وقدراتهم المختلفة في مجالات السياسة ، والحرب ، والبلاغة ،ويأتي ذكر هؤلاء : فمنهم الفائقون في الفضائل ومعالي الأمور فيقال : أخطبمن سحبان وائل ، وأكرم من حاتم الطائي ، وهما قمة الفصاحة والكرم فيالتاريخ العربي . كما يقال : أبخل من مادر ، وأفهُّ وأعيي من باقل ، وهماالنموذجان المقابلان .
3- والأمثال بعد ذلك هي أصدق ما صور ملامحالحياة الاجتماعية ، والسياسية في الحرب ، والسلم ، ورافد الصدق هنا أنهاتصدر بصورةٍ عفوية ، لا تكلف فيها ولا تصنع ، حتى ليمكن للباحث أن يستخلصمن هذه الأمثال تضاريس وافية للحياة العربية بكل ملامحها.
إن الأمثالوالحكم ثروة تراثية ضخمة تربط بين الماضي والحاضر ، ولا أبالغ إذا قلتإننا في وقتنا الحاضر ، لا نستطيع أن نعثر على مَثل إلا وهو يمكن أن يضربعلى منحى من حياتنا الحاضرة ، في السياسة ، والاقتصاد ، والاجتماع ،والقادة ، والأسرة... إلخ.
لذلك أرجو ألا أكون مسرفًا إذا دعوت إلىتدريس مادة (الحكم والأمثال) في المرحلة الثانوية من تعليمنا ، أو فيبداية المرحلة الجامعية .
**********
ومن الأمثال :
كيف أعاودك وهذا أثر فأسك ؟.
اصلُ هذا المثل على ما حَكَتْه العرب على لسان الحية : أن أخوين كانا فيإبل لهما ، فأجْدَبَتْ بلادهما ، وكان بالقرب منهما وادٍ خَصيبٌ وفيه حيةتَحْمِيه من كل أحد ، فَقَال احدهما للاخر : يا فلان ، لو انى أتيتُهذا الوادي المُكْلِئ ( ذا الكلأ الكثير ) فرَعَيْتُ فيه إبلي ، وأصلحتها. فَقَال له أخوه: اني اخاف عليك الحية ، ألا ترى أن أحداً لا يهبط ذلكالوادى إلا اهلكته ، قَال : فوالله لافعَلَنَّ . فهبط الوادى ورعى بهابله زماناً ، ثم إن الحية نَهَشَتْه فقتلته ، فَقَال أخوه : والله مافي الحياة بعد اخي خير، فلاطلبَنَّ الحية ولاقتلنها أو لأتبعنَّ اخي ،فهبط ذلك الوادى وطلب الحية ليقتلها ، فَقَالت الحية له : ألست تَرَىأنِّى قتلت أخاك ؟ فهل لك في الصلح ، فأدعَكَ بهذا الوادى تكون فيه ،وأعْطِيك كل يوم ديناراً ما بقيت ؟ قال أوفاعله أنت ؟ قَالت : نعم .قَال : إني أفعل ، فحلف لها وأعطاها المواثيقَ لا يضرها ، وجعلتتُعْطِيه كلَّ يوم ديناراً ، فكثر مالُه ، حتى صار من أحسن الناس حالا ،ثم إنه تَذَكَّر أخاه فَقَال : كيف ينفعني العيشُ وأنا أنظر الى قاتل اخي؟ فعَمِدَ الى فأسٍ فأخذها ، ثم قَعَدَ لها ، فمرَّت به ، فتبعها ،فضربها فأخطأها ودخلت الجُحْرَ ، ووقعت الفأس بالجبل فوقَ جُحْرها فأثرتفيه ، فلما رأت ما فَعَلَ قطعت عنه الدينار ، فخاف الرجل شَرَّها وندم ،فَقَال لها : هل لك في أن نَتَوَاثقَ ونَعُودَ إلى ما كنا عليه ؟فَقَالت : كيف أعاودك وهذا أثر فأسك ؟
يضرب لمن لا يَفِي بالعهد .
**********
ومن الحكم العربية :
يبني قصرًا، ويهدم مِصرًا.
ومعناه أنه يبني الصغير لمصلحته ، ويهدم الكثير الكبير إذا كان في هذا الهدم ما يرفع شأنه ، و( المِصر ) هو المدينة الكبيرة .
وهيحكمة تصويرية ، أقرب ما تكون إلى المثل ، وكأنما قد أنشئت لتصوير حكامنا ،ونظامنا الحالي ، فتجد رءوسهم الكبيرة تبني لنفسها ما تشاء من قصور ،ومرابع التمتع والعيش الهنيء ، ولو كان ذلك على حساب إفلاس الشعب وضياعه .
كما ترى أن المشروعات الخائبة التى يقيمها النظام لم تُبن على أساسقويم ، بل على العجلة والدراسة العشوائية ، مما يترتب عليه الخسائرالفادحة .
إنهم حكام همهم في نفوسهم ورفاهتهم ، بصرف النظر عن معاناةالأمة وما يعود عليها من نكبات بسبب تصرف هؤلاء الكبار ، والأمثلة أكثر منأن تحصى في هذا المقام .
**********
ومازلتمؤمنا بما دعوت إليه آنفا " من ضرورة تدريس مادة ( الحكم والأمثال ) فيالمرحلة الثانوية من تعليمنا ، أو في بداية المرحلة الجامعية " وذلك لأنهاتمثل ثروة تاريخية وأدبية كبرى ، وتحمل من الدروس المختلفة الكثير والكثير.
gkomeha@gmail.com